مسيحية والعياذ بالله


مارسيل نظمي  
 منذ عدة أعوام ذهبت مع أختي لمكتبة افتتحت حديثا في شارع بيتنا، ألقينا التحية على صاحب المكتبة ذو البشرة الفاتحة الذي كان مبتسماً بمجرد اقترابنا منه: "صباح الخير".. فاجئنا بالرد بابتسامة أكثر وسعا أظهرت إصفرار أسنانه: "اسمها السلام عليكم... صباح الخير دي تبع المسيحيين والعياذ بالله".
مرت لحظة صمت علينا لم تُدم كثيراً، تجاوزنا كلماته وسردنا طلباتنا، في النهاية كان يريد ضمان تكرار زيارتنا متعاملاً باحترافية تاجر يكسب الزبون، أخبرنا بما لديه من مستلزمات الدراسة بداية من القلم حتى أدوات الهندسة، ثم كررعلينا ضرورة الشراء من مكتبته دائماً خاصة بعد معرفته بمكان سكننا القريب من المكتبة، وبعد الحصول على طلبنا وانتهاء الحديث مختوماً بوعود بالقدوم مرات أخرى.
فاجأته أختي قائلة: "على فكرة نسيت أقول لحضرتك.. إحنا مسيحيين والعياذ بالله.. يلا سلام".
لم نكف وقتها عن الضحك وكلما استحضرنا الموقف وتذكرنا وجه الرجل الذي أصابته حُمرة فشل في إخفاؤها بعد رد أختي، واستقبالنا لفكرته عن المسيحيين الذين يتساوون في نظره مع الشيطان فيلحق بذكرهم قول العياذ بالله بسلاسة. بل نشرنا بعدها الإفيه بين أسرتنا وأصدقائنا، وكلما حدثت واقعة مشابهة رددنا مقولة صاحب المكتبة: "مسيحيين والعياذ بالله".
النكتة بوخت
لازلت أذكر هذا الموقف جيداً الذي حدث منذ ما يقرب من 15 عام أو ربما أكثر، لكن لم يعد يضحكني كما من قبل، بل يستثير داخلي أسئلة عما حدث خلال السنوات الماضية ليحول مصر كما قرأنا وسمعنا عنها من ملتقى الحضارات الثقافية والفكرية والدينية إلى مشيطنة للآخر جاعلة إياه "والعياذ بالله".
فقط في الأسبوع الماضي، حادثتان متتاليتان كشفت عن امتداد الداء بين الجميع دون استثناء، من المناصب العليا للدنيا للأطفال أيضاً، حيث رفض رئيس جامعة المنيا تعيين أمل مجدي ذكي غطاس الأولي علي قسم الآثار بكلية آداب بجامعة المنيا بعد أن جاء اسمها في كشوف المعيدين المعينين من كلية الآداب وهي الوحيدة الحاصلة علي امتياز في مادة التخصص، ولا يوجد سبباً واحداً إلا لأنها مسيحية والعياذ بالله!
     
أيضاً حالة قتل بمنطقة الحسينية بمحافظة الشرقية، ارتكبها شاب ضد فتاة يقال أنه اغتصبها ثم قتلها، انتفضت عقبها صفحات كثيرة منها واحدة باسم: "المقاومة الشعبية" لم تدعو المسئولين للمحاكمة الناجزة ضد الجاني، ولم تحث الآخرين على الثورة ضد عقوبة جريمة الاغتصاب وتعريفه القاصر لدرجة يصعب إثباته ومن ثم الحكم على الجاني بالإعدام، لكن ما دعت إليه هذه المقاومة الشعبية والصفحات المماثلة بالانتقام من الكنائس والتحريض للهجوم عليها، وبالفعل هناك دائماً متحمسون يفعلون ما يظنونه انتقاماً لأنفسهم فقط لأن الجاني يدعي "مينا" والعياذ بالله!
بل أن الثأر تحول لعقاب جماعي، يدفع ثمنه كل من ينتمي لنفس ديانة الجاني بالمنطقة مما دفعهم لإخلاء منازلهم وتركها تحسباً لأعمال عنف ضد أي مسيحي والعياذ بالله.
وكذلك في فبراير الماضي، تظاهر طلاب مدرسة الصنايع بنين بمحافظة المنيا لرفض تعيين مديرة تدعى ميرفت سيفين بمدرستهم، لكن الحادثة لم تكن الأولى فكانت تقليداً للنجاح الباهر الذي حققته طالبات مدرسة بني مزار الفنية للفتيات في إقصائها، بعد تظاهراهم ضد تعيين "ميرفت" كمديرة للمدرسة بعد علمهم بترقيتها ضمن حركة ترقيات بوزارة التربية والتعليم على مستوى المحافظة لأنها مسيحية والعياذ بالله! ورددوا هتافات من نوعية: "مش عايزين مسيحية تحكمنا".
أعلم أن هناك أشخاص لا يرضون بتلك النظرة الدونية للمختلف، ويصرون في كل موقف على ترديد حكايات عظيمة عن عنصري الأمة ويذكرونا بحكاية محمد وصديقه مايكل، وقصة فاطمة التي تقضي وقتها مع دميانة، وعبد الرسول الملازم لعبد المسيح، وتريزا الطبيبة التي تركت حبيبها جورج من أجل عمر، أو ترديد كلمات من نوعية لا فرق بيننا.. كلنا واحد.. أنتم إخوة.. شركاء الوطن.. أو ما شابه.
لكن الأمر لم يعد يحل ببساطة الإنكار، فالعقلاء يجيدون دائماً فن المكاشفة والمواجهة لا التهرب من الأزمات بالمواربة ونكرانها، حيث أضحى نموذج صاحب المكتبة ذو الابتسامة الصفراء في كل منطقة بل وربما في كل منزل، لدرجة تحول معها من حالة فردية يُسخر منها إلى أسلوب حياة عام نتألم بسببه.. فياليتنا نكف عن السخرية من الحالات الفردية اليوم.. فربما تصبح كارثة محققة غداً.